الحسُّون.....دونا تارت

ترجمة: الحارث النبهان

بقلم: أحمد جمال

 
للفيلسوف الانجليزي روجر سكروتون كتاب بديع عنوانه (الجمال) فقط هكذا، يقول من ضمن فقراته الممتعة محاولًا تلخيص أثر الجمال في النفس: قد يُحدث الجمال شعورا بالاطمئنان، أو الاضطراب، أو القداسة، أو الفرح، أو الرضا، أو الإلهام، أو القشعريرة. فالجمال يمارس تأثيرا علينا بطرق متعددة ومختلفة. ولكن أحكام الجمال تتعلق بأمور الذوق. الذي ربما ليس له أساس عقلاني، وعليه كيف لنا أن نفسر المكانة الرفيعة للجمال في حياتنا؟ ولماذا يجب علينا أن نندب حقيقة أن الجمال يختفي من عالمنا؟
         

ولمحاولة فهم هذه الرواية، أعتقد أننا لابد أن نمتلك الحد الأدنى من تقدير جمال التفاصيل، تفاصيل نظرات البشر ولمساتهم، تفاصيل ذلك الوجود البشري في حياتهم، لنعرف فعلًا ما يحدث عند فقد أحدهم من حياتنا، وأحدهم هنا يبدأ من بواب عمارتنا إلى أقرب الأقربين لنا، إلى الأم، الأم بكل ما تعنيه الكلمة، من حضور أنثوي أول في حياتنا، نراه في كل موجات غضبه ورقته وفتنته علينا، نرى وجبة الإفطار وأن تمسك بأيدينا عند عبور الشارع، وجيشنا الأول عند مواجهة أى خطر، وفجأة يختفي كل ذلك، لنرى حينها عالمًا غير العالم المعتادين عليه.

         
قد نجد للرواية عنوان من مخيلتنا، وبعد الانتهاء منها، كل العناوين التي ستطرق خيالنا لها علاقة بالفن الإنساني، ذلك الإبداع المقدس والذي انتجه لنا آلاف البشر عبر التاريخ، فسنجد أن لوحة صغيرة أتقن صنعها فنان ما عاش في القرن السابع عشر، لوحة صغيرة الحجم لطائر، لوحة للوهلة الأولى قد تعتبرها عادية ولا تدري أن ذلك العمل قادر على تحويل حياة شخص ما، ولا نقدر أن نتخيل حياة لتلك اللوحة ذاتها، هذا ما فعلته الكاتبة دونا تارت، صنعت حياة للوحة الحسّون المرسومة عام 1654 للرسام الهولندي كارل فابريتيوس، ومعها صنعت حياة ثيو (الصبي اليتيم)، وجمعت بين الحياتين لتنتج لنا ملحمة أدبية من الطراز الرفيع.
     
تبدأ الرواية بزيارة أم وإبنها المُعاقَب من المدرسة إلى متحف نيويوركي استعدادًا لمقابلة أستاذه، ونكتشف حينها ذوق الأم الرفيع واستمتاعها بكل فن جميل في العالم، ونجدها تحاول زرع ذلك الجمال في نفس ابنها، فتقول له: هذة روعة خالصة ، جنة حقيقية ، هَكذا كَانت تقول وهي غارقة في كُتب الفن ، أو وهي تَنظُر من جديد إلي السلايدات القديمة نفسها "لوحات لمونيه وفوييار" إلي أن تزوغ عيناها ( كانت تَقول: هَذا جنون ، لَكني سأكون سَعيدة تماماً إذا أستطعت الجلوس والنظر إلي هذة اللوحات القديمة نفسها طيلة ما بقي من حياتي ، لا يُمكنني التَفكير في طريقة أفضل من أجل الأصابة بالجنون.
       
وفي خضم استمتاعهم بالفن الرفيع يحدث انفجار مروّع تموت فيه الأم وينجو الصبي بمعجزة، وخلال ذلك تقع عينيه على فتاة يجد قلبه طريقه إليها، فتاة في مثل عمره تمسك بيد جدها، وحاول أن يتبعها ليقول لها كلمة أو اثنتين، لتكون لحظات مراقبته لها هي من أنقذت حياته، وعند مغادرته لموقع الانفجار يجد الجد العجوز يحتضر ليخوض معه نقاش صغير يقول فيه الجد ما يقوله المحتضر، ويعطيه خاتمه، ولم يكن الطفل يعلم أن ذلك النقاش سيغير حياته، ولم يشعر في ظل الكارثة بأنه خرج من المتحف بلوحة صغيرة.
     
  ثم تتابع حياته بين نقله للسكن مع أسرة صديق له، أسرة ثرية، يسودها النظام الصارم والتربية الأرستقراطية الغنية، لينتقل بين حيوية الحياة وحرارتها إلى برودة التعامل، وبين ابتسامة والدته الحانية، إلى ابتسامة والدة صديقه المتصنعة التي لا تتغير، ويعرف حينها أن فراق أمه قد ترك تفاصيلها في كل شيء، وتوقفت حياته عند ال13 من عمره، لم يمت مع أمه ولكنها بقيت حيّة بداخله تدفعه دايما، وتترآى حوله، واكتشف هذا الصبي أنه لم يهرب من الانفجار بمفرده، بل هربت معه لوحة كان مقدر له ولها، أن يقتسم حياته معها.
       
ثم يظهر أباه السكير في الصورة فجأة، يظهر بعد أن هجر زوجته وابنه، يظهر في نفس الوقت الذي يكاد الصبي تجاوز الصدمة، وتبدأ حياته في الاستقرار الجديد مع عائلته الغنية الجديدة، ليأخذه الأب الفاسد في رحلة معه تتجدد معه آلامه وحزنه وخاصة برفقة والده وصديقته الجديدة والتي كانت سيئة معه، تشعره أكثر وأكثر بمعنى الفقد، ولا يمر كثير من الوقت حتى يموت أبو الصبي، ويرفض جده استقباله، ليعاني من خسارة كل أهله، وتبدأ دائرته من البداية، ويعود طيف لقاءه القصير مع العجوز المحتضر لينقذه من جديد.   إذا فهي رواية عن الفقد، تقرأها لتعرف أن ما يفعله الحزن فينا يفوق بآلاف المرات مرأى الدمع في أعيننا، ومرأى الكآبة على وجوهنا، نعرف حينها أن الفقد يعني شيء من الروح يسافر ولا يرجع، تشرح كل ذلك بتفاصيل دقيقة، ملهمة ومستلهمة من أروع إبداعات البشر الأدبية والفنية، وضعتها الكاتبة بثقافتها الموسوعية بين سطور الأحداث والتفاصيل الروائية.
       
تتحرك حياة بطلنا الصبي ثيو كما يتحرك الموج، تتجاذبه الحياة فتلين معه تارة وتشتد تارة أخرى، وهو يخوض غمارها كما تدفعه عاطفته وغريزته التي تطورت ونمت بفعل تجارب الحياة التي فُرضت عليه، يدمن على المخدرات، وينصب في بيع التحف، ويبرع فيها، يحب فتاة ملكت قلبه ولم تحبه هي، يموت أعز أصدقائه دون معرفته، يموت أبيه في ظروف مأساوية مريرة، يتعامل مع رجال العصابات وأرباب السجون، ويتعامل أيضا مع صفوة المجتمع وسيداته، ويخرج من كل ذلك بحكمة جديدة وتجربة تزيده صلادة.
         
تحتل مشاهد الموت والفراق في الرواية إتقان أدبي منقطع النظير، الكاتبة قادرة على التعبير الإنساني ومشاعر الإنسان بملكة أدبية، قادرة على أن تسطر الحزن لنراه أمامنا رؤيا العين، فنشعر به كأننا نعانيه، فتجد في وسط تدفقها البديع في وصف الحدث جملة تقع في قلوبنا وتستقر ومن هذه الجُمل: الناس يموتون. هذا صحيح، لكننا نفقد الأشياء على نحو غير ضروري، على نحو يحطم القلوب، نفقدها بفعل الإهمال الصرف، الحرائق، والحروب.
           
وعندما تتحدث عن الحب وما يعترك بداخل أرواحنا من شوق وود للبشر نجد القراءة تهدأ وتسكن النفس مستمتعة بما تقرأه وتجد أمام عينيها: ومهما يكن سبب ذلك غبيًا، فقد كنت أجامل نفسي دائمًا بالقول إنني الشخص الوحيد في العالم الذي يقدرها حق قدرها، ستصيبها الدهشة وتتأثر كثيرًا لو عرفت كم أراها جميلة، بل يمكن حتى أن تبدأ النظر إلى نفسها بعين مختلفة، لكن هذا لم يحدث أبدا.
         
وعندما تتحدث عن الحزن البشري، نجدها ترسم ذلك الشعور الذي ينخر فينا نخر السوس في الخشب، فتقول في وصفه : لكن كلمة اكتئاب لم تكن وصفا صالحا لتلك الحالة. كان الأمر غوصًا عميقا في بحر واسع من حزن وقرف يتجاوزان كثيرا ما هو شخصي: إحساس مريض مشبّع بالغثيان تجاه البشر وتجاه كل ما سعى إليه البشر منذ فجر الزمان. اشمئزاز عنيف من النظام البيولوجي كله. الشيخوخة، والمرض، والموت. لا مهرب لأي إنسان من هذه البشاعة كلها! وحتى من يكون جميلا، فهو ليس أكثر من ثمرة طرية ناضجة موشكة على الفساد. لكن الناس-لا أدري كيف- يواصلون المضاجعة والتوالد وإنتاج طعام جديد للقبور. ليس إنتاج المزيد والمزيد من الكائنات الجديدة حتى تعاني على هذا النحو شيئا حسنا، ولا شيئا مخلصا، ولا حتى شيئا أخلاقيا يدعو إلى الإعجاب: بل جر مزيدا من المخلوقات البريئة إلى هذه اللعبة الخاسرة أبدًا. أطفال صغار يسيرون متثاقلين مرتبكين، وأمهات راضيات عن فعلتهن وقد خدّرت الهرمونات عقولهن.
       
وحينها نعرف أننا فقط لا نقرأ مجرد رواية جميلة، ثرية، دسمة، بل نجد أننا نقرأ أنفسنا.
           
كل ما في الرواية جميل، شخصيات مرسومة باحترافية عالية، خُلقت من رحم الحياة ووجدت طريقها على الورق، مرسومة بعناية شديدة فلا تجد فارقًا بينها وبين شخصيات العالم الحقيقي الذي نعيشه، وأحداث منطقية مترابطة، وقد نجد هنا نوع من الإعجاز، فعلى الرغم من ضخامة الرواية (أكثر من 1100 صفحة بالعربية) إلا أنك تجدها محكمة، كسلسلة طويلة كاملة الحلقات، أحداثها تتدافع بفعل الشخصيات وتصرفاتهم، وعند الحديث عن وصف الكاتبة، فلابد من الوقوف كثيرا عند مقدرتها المذهلة وثقافتها المهولة في شتى المجالات، ولكنك ستجد نفسك باحثا عن كم كبير من الكتب واللوحات الفنية والأفلام السينمائية والأحداث التاريخية، بل حتى طرق تصليح الأشياء، مدفوعا بسحر الحكي والسرد اللذان امتلكتهم الكاتبة.
           
في المطلق: هذه الرواية عمل فريد، يجمع بين الكلاسيكية الأصيلة التي تعيد لنا ذكريات أعمال عظيمة من ديكنز وحتى دستويفسكي وماركيز، وفي نفس الوقت لم تفقد عصريتها وروح عصرها، عمل يجعلك تعترف بقيمة الأدب كرسالة خالدة حيّة قادرة على إعادة التوازن لحياة البشر.