يذكُر چورچ ر. ر. مارتن أنه قال لنفسه ذات يوم: «سأكتب رواية فانتازية، وستكون رواية ملحمية ضخمة، وسأضع فيها كل الشخصيات والأحداث والمعارك التي أرغب فيها»، لكنه على الرغم من هذا لم يكن يعرف عمَّ ستدور تلك الملحمة المزمعة بالضبط، إلى أن أتاه الإلهام في شكل مشهد تخيله لعثور مجموعة من الرجال على الذئاب الرهيبة الوليدة وسط ثلوج أواخر الصيف، المشهد الأول الذي بدأ به كل شيء في ما أصبح أشهر وأهم أعماله على الإطلاق، سباعية «أغنية الجليد والنار». هكذا، في عام 1996، وبعد خمسة أعوام من الكتابة، نشر مارتن رواية وقعت في أكثر من 800 صفحة بعنوان «لُعبة العروش»، الجزء الأول مما كان يخطِّط له وقتها أن يكون ثلاثية، تتناول الصراع على السلطة بين عدد من العائلات الكبرى، في العالم الخيالي الذي صنعه شبيهًا بعالمنا في القرون الوسطى. وعلى الرغم من أن «لُعبة العروش» لم تحقِّق بمجرد نشرها النجاح الباهر الذي نعرفه اليوم، فقد وجدت تشجيعًا لا شك فيه من عدد كبير من باعة الكتب المستقلين الذين رشحوها لزبائنهم، والذين رشحوها بدورهم لأصدقائهم، وهكذا بدأ جمهور السلسلة يتشكل رويدًا في البداية، وأخذ ينمو مع مرور الوقت وخروج الأجزاء التالية من السلسلة، التي قرر مارتن أنها لم تعد تصلح لأن تكون ثلاثية فقط، عندما فرغ من كتابة الجزء الثالث ووجد أنه لم يحك نصف ما يرغب في حكايته بعد، قائلًا إن «الحكاية طالت في الحكي»، واستقر على أن تكون «أغنية الجليد والنار» سباعية. تقع الأجزاء الخمسة التي صدرت حتى الآن في أكثر من خمسة آلاف صفحة، وباعت أكثر من 70 مليون نسخة في أكثر من 40 لغة، وفازت بعدد كبير من الجوائز الأدبية المهمة بخلاف الترشيحات، وبكل تأكيد ساهم إنتاج مسلسل «Game of Thrones» المأخوذ عن السلسلة في مضاعفة جمهور مارتن في جميع أنحاء العالم عدة مرات، حتى إن مجلة «TIME» وصفته بأنه أقوى رجل في هوليوود في الوقت الحالي، وهو الوصف الذي أنكره مارتن. بالإضافة إلى النجاح التجاري الضخم، لاقت السلسلة نجاحًا موازيًا من النقاد الذين أشادوا بها، فبينما كان البريطاني تولكين هو صاحب الفضل الأول في تأسيس أدب الفانتازيا الملحمي في تحفته الخالدة «سيد الخواتم» والحكايات الأخرى التي تدور أحداثها في أرضه الوسطى، فمنذ ذلك الحين والغالبية العظمى من كتاب الفانتازيا يحذون حذوه، في حين أن مارتن هو صاحب الفضل في تناول هذا النوع من الأدب الخيالي بأسلوب أكثر جدية وحرفية ممن كتبوا الكثير جدًّا من الأعمال التي لم تتعد محاكاة رديئة لما قدمه تولكين، والتي تدور بشكل أو بآخر دائمًا حول شخص تقليدي يكتشف قواه الكامنة وينقذ العالم بتدمير شيء سحري ما، للقضاء على الشرير الكبير الذي يملك آلاف الأتباع، ثم النهاية السعيدة دون أن يموت أحد من الأبطال على الرغم من كل المخاطر الضخمة التي واجهوها، أما ما قدمه مارتن في حكايته فشخصيات رمادية من الممكن أن نجدها في عالم الواقع، تركيباتها المعقدة ودوافعها وأهدافها وما ترتكبه من أفعال لا يمكن الحكم عليه ببساطة، بالإضافة إلى المحتوى الأدبي الثري الذي حرص مارتن على تقديمه بلغةٍ ظلت بمنأى عن التعقيد والتكلف، وبأسلوب لا يعرف الملل له طريقًا، وهو ما دفع النقاد إلى الإشادة بكتابته. أوجد مارتن لنفسه كذلك قاعدة عريضة من المعجبين بين كبار المؤلفين، إذ قال ستيڤن كينج إن «مارتن راوي قصص بالفطرة يتمتع بخيال واحد في المليون، والمسلسل المأخوذ عن سلسلته رائع، لكن الكتب أفضل بكثير»، في حين قال تشاك پولانك مؤلف «نادي القتال» إن مارتن «كتب حبكة محكمة لا يعوزها التشيوق والإثارة»، وقال نيل جايمان صاحب «آلهة أمريكية» إن «مارتن يأخذ راحته في الكتابة وله مطلق الحرية في هذا ما دامت هذه نتيجة عمله». أصدر مارتن الجزء الثاني من السباعية بعنوان «صِدام الملوك» في عام 1998، والجزء الثالث «عاصفة السيوف» في عام 2000، والجزء الرابع «وليمة للغِربان» في عام 2005، والجزء الخامس «رقصة من التنانين» في عام 2011، وما زال قراؤه حول العالم ينتظرون بشغف شديد صدور الجزء السادس «رياح الشتاء» الذي تأخر طويلًا ولم يُعلن بعد عن موعد صدوره، ناهيك بالجزء السابع «حُلم بالربيع» الذي قد يتأخر خمس سنوات أخرى على الأقل إذا استمر مارتن في الكتابة بهذا المعدل البطيء، وقد اشتكى كثيرون من بطء مارتن الشديد في الكتابة، وأعلن بعضهم تخوفه من وفاته قبل الفروغ من السلسلة، خصوصًا أنه رفض أن يكملها أحدهم بعده إذا مات قبل أن ينهيها، كما حدث مع روبرت چوردان الذي توفي قبل أن يكمل الكتاب الأخير من ملحمته، وكان رد مارتن على هؤلاء ببساطة هو: «اذهبوا إلى الجحيم!».  

فانتازيا مختلفة

كثيرًا ما يكون أدب الفانتازيا الذي يكتب فيه مارتن مزدحمًا بتنويعات ابتُذلت تمامًا من فرط استهلاكها على ما أطلق عليه چوزف كامپل اسم «رحلة البطل»، مصحوبة بحبكات درامية مستمدة كلها من الأساطير القديمة، في حين أن ما فعله مارتن أنه استمد إلهامه من التاريخ الحقيقي بدلًا من الأساطير، عندما بنى أُسس حكايته على الحرب الدامية التي أطلق عليها شيكسپير لاحقًا اسم «حرب الوردتين» في مسرحيته «هنري السادس»، تلك الحرب التي دارت في إنجلترا في القرن الخامس عشر بين عائلتي لانكاستر ويورك على مدى 30 عامًا، وكانت نتيجتها آلاف القتلى وجلوس هنري تيودور سليل عائلة لانكاستر على عرش إنجلترا وزواجه بالأميرة إليزابث ابنة الملك ريتشارد الرابع. على أن حرب الوردتين لم تكن مصدر الإلهام التاريخي الوحيد، فبالإضافة إليها وجد مارتن مادة خصبة في سلسلة الروايات التاريخية «الملوك الملعونون» التي تناولت الحكم الملكي في فرنسا في القرن الرابع عشر، وكتبها موريس دريون الذي قال مارتن عنه إنه «أهم روائي تاريخي عرفته فرنسا منذ ألكزاندر دوما»، وعلاوة على ذلك استلهم مارتن بعض أفكاره من حرب المئة عام والحروب الصليبية. وبعيدًا عن مصادر الإلهام التاريخية، قال مارتن إنه تأثر كثيرًا في كتابته بأعمال لافكرافت وتشارلز ديكنز وويليام فوكنر وإف سكوت فيتزجيرالد، بالإضافة إلى روبرت چوردان صاحب ملحمة «عجلة الزمن»، لكن أكثر من أثر فيه هو تولكين الذي أُطلق عليه لقب «أبي الفانتازيا الحديثة»، وقد وصفه مارتن بأنه أستاذ عبقري لم يعرف التاريخ له مثيلًا، وإن أخذ عليه نظرته الطفولية إلى وضوح الخير والشر، حيث كل شيء إما أبيض وإما أسود.  

لكن من كان مارتن قبل كل هذا؟

عشر سنوات قضاها چورچ ريتشارد رايموند مارتن في العمل في هوليوود، واشترك خلالها في كتابة وإنتاج عدد من المسلسلات التليفزيونية المعروفة في عقد الثمانينات، منها «Beauty and the Beast» و«The Twilight Zone»، لكن مع مجيء العام 1994 كان مارتن قد ضاق ذرعًا برفض القائمين على الاستوديوهات الكبيرة المستمر للمشاريع التي يقدمها لهم للإنتاج في التليفزيون أو السينما -بزعم أن الأفكار التي يطرحها شديدة الضخامة، وستتكلف مبالغ كبيرة جدًّا لا قِبل لهم بإنفاقها- وقال إنه اكتفى تمامًا من القيود التي تفرضها التكاليف على الإنتاج، ومن ثم قدرة الشاشة على تقديم ما يرغب فيه حقًّا على المستوى المطلوب، فيما يستطيع على الصفحة المطبوعة أن يحكي كل ما يريده من قصص بكل التفاصيل التي تتفتق عنها مخيلته النشطة. هكذا اتخذ مارتن القرار بأن يترك العمل في هوليوود ويعود إلى تأليف الكتب وتقديم أفكاره كلها فيها، حيث لا توجد عقبات إنتاجية أو مالية تعوقه عن بناء العوالم الضخمة التي يتخيلها وتقديمها بأدق وأصغر تفاصيلها. وُلد مارتن في سبتمبر 1948 في ولاية نيو چرسي لأب من أصول إيطالية يعمل في تفريغ وتحميل البضائع على السفن، وأم من أصول أيرلندية، وفي عائلة تملك جذورًا إنجليزية وألمانية وفرنسية، وهو ما يفسر شغفه الشديد بالتاريخ الأوروبي، خصوصًا حقبة العصور الوسطى التي استلهم منها الكثير في كتاباته ودرسها. يقول مارتن إن طفولته كلها كانت تتلخص في الذهاب إلى المدرسة والعودة إلى المنزل، ومشاهدة السفن التي تتوافد على ميناء نيو آرك من جميع أنحاء العالم من نافذة غرفته الصغيرة، واضعًا قائمة بأعلام الدول التي يراها ويحلم بأن يزورها ذات يوم، وكان هذا ما شجعه على القراءة بنهم شديد على سبيل زيارة تلك الدول في خياله، قبل أن يتجه إلى الكتابة في سن صغيرة، وبدأ يبيع القصص التي يكتبها لأطفال الحي مقابل بنس للقصة، وأحيانًا ما كان يقرأ عليهم هذه القصص كذلك. ظل مارتن شغوفًا بالقراءة والكتابة، وفي أثناء دراسته الثانوية أضاف قصص الكومكس إلى هواياته، حتى صارت لديه مجموعة ضخمة منها، وهو ما شجعه على كتابتها كذلك، وفي سنة 1970 اشترت مجلة «Galaxy» منه واحدة من تلك القصص، لتصبح أول عمل احترافي يُنشر له على الإطلاق. ثم التحق مارتن بجامعة نورثوسترن في ولاية إلينوي ليحصل على درجتي البكالوريوس والليسانس في الصحافة، وخلال دراسته الجامعية كان من النشطاء المعارضين لحرب ڤ يتنام. عمل مارتن أستاذًا للصحافة في الجامعة لفترة واصل فيها نشر قصصه ومقالاته في الصحف والمجلات المختلفة، وأخيرًا في سنة 1976 نشر مجموعته القصصية الأولى «أغنية ليا»، التي فازت بجائزة «Locus Poll» كأفضل مجموعة قصصية لهذا العام، ثم في العام التالي نشر روايته الأولى بعنوان «موت الضياء»، التي رُشحت لجائزتي «Hugo» و«British Fantasy Award» كأفضل رواية، وتُرجمت إلى عدة لغات. مع حلول سنة 1979 كان مارتن قد تفرغ للكتابة تمامًا، وواصل نشر مجموعاته القصصية ورواياته، التي تضمنت «أغاني النجوم والظلال» و«تنين الجليد» و«في الأراضي المفقودة»، ليحصد المزيد من الجوائز الأدبية المرموقة عن أعماله المختلفة، والتي يبلغ عددها حتى الآن 21 جائزة بخلاف الترشيحات. غير أن روايته الرابعة التي نشرها سنة 1983 بعنوان «المعركة الأخيرة» لاقت فشلًا ذريعًا في المبيعات على الرغم من إشادة النقاد بها، لدرجة أنه قال إنه «دمر مسيرته المهنية كروائي في ذلك الحين». لكن سرعان ما تعافى مارتن من هذه العقبة واتجه إلى العمل في هوليوود، وفي الآن نفسه واصل كتابة القصص والروايات، لتبلغ حصيلته منها حتى الآن 18 رواية ومجموعة قصصية لا تتضمن «أغنية الجليد والنار» والكتب الأخرى التي تدور أحداثها في عالمها. يقول مارتن إن تركه هوليوود كان من أفضل القرارات التي اتخذها في حياته، ويقرُّ بأن هوليوود كانت كفيلة بتدمير سلسلة «أغنية الجليد والنار» تمامًا لو كان قدمها للستوديوهات الكبيرة لتحولها إلى سلسلة أفلام سينمائية ضخمة، بدلًا من شبكة «HBO» التي حولتها إلى مسلسل «Game of Thrones»، الذي يعمل عليه مشرفًا ومنتجًا تنفيذيًّا، وشارك في كتابة عدد من أهم حلقاته، وإن توقف عن الكتابة للمسلسل بعد موسمه الرابع، ويعيش حاليًّا في ولاية نيو مكسيكو مع زوجته الثانية پاريس متفرغًا لكتابة الجزئين السادس والسابع من سلسلته، واللذين ينتظرهما القراء في جميع أنحاء العالم على أحر من الجمر.    

عالم الجليد والنار

    على عكس أرض تولكين الوسطى، تدور أحداث روايات مارتن «أغنية الجليد والنار» ومسلسل «Game of Thrones» المأخوذ عنها في عالم خيالي شبيه في طبيعته وجغرافيته بعالم الواقع، في فترة قريبة في تصويرها من فترة القرون الوسطى في أوروبا، وهو عالم بلا اسم معين ويُطلق عليه فقط اسم «العالم المعروف» في الخرائط المرسومة له، وهو حسب الوصف في الروايات عالم ضخم جدًّا يمتد لآلاف وآلاف من الأميال، يحتل معظمه محيط واحد واسع للغاية، وفيه أربع قارات معروفة هي وستروس وإسوس وسوثوريوس وأولثوس، لكن لا أحد يعرف الكثير عن هاتين القارتين الأخيرتين وسكانهما المجهولين ومدنهما الغامضة، فيما تدور الأحداث الأساسية كلها في قارتي وستروس وإسوس اللتين يفصل بينهما البحر الضيِّق. قبل قرون من بداية الرواية الأولى، كانت الممالك السبع التي تضمها قارة وستروس خاضعة لحكم عائلة تارجاريَن، التي أتت هاربة من قارة إسوس بعد أن قضى بركان مدمر على إمبراطورية ڤاليريا العظيمة، وعندما تبدأ الرواية الأولى نعرف أن 15 عامًا قد مرت على الثورة التي قام بها الملك الحالي روبرت باراثيون للقضاء على آخر ملوك عائلة تارجاريَن المعروف باسم الملك المجنون. لم تندلع هذه الثورة لأسباب سياسية فقط، بل أيضًا لأن ريجار تارجاريَن ولي عهد الملك المجنون اختطف واغتصب ليانا ستارك (حسب الرواية الشائعة)، وهي الفتاة التي أحبها روبرت وكان من المفترض أن يتزوجها، وعليه حشد روبرت جيشًا عظيمًا وقد أقسم أن يُفني عائلة تارجاريَن عن آخرها، وانتهت الحرب بأن قتل ريجار بنفسه في معركة نهر الثالوث، في حين استولى حليفه اللورد تايوين لانستر على عاصمة الحكم بالخيانة، ليجلس بعدها روبرت على العرش الحديدي. والآن بعد مرور كل هذه السنين، يسعى روبرت إلى صديقه القديم اللورد إدارد ستارك شقيق ليانا وحاكم الشمال، ليعرض عليه أن يتولى منصب يد الملك (وهو ما يعادل الوزير أو كبير المستشارين)، بعد وفاة صديقهما الذي رباهما والذي كان يحتل المنصب نفسه، ويقبل إدارد على مضض لأنه يفضل أن يبقى في الشمال مع عائلته، بالإضافة إلى أنه ليس هناك ود مفقود بينه وبين عائلة لانستر، التي تعد أثرى العائلات في وستروس وأقواها، كما أن هناك نوعًا من العداء الخفي بينه وبين الملكة التي تنتمى للعائلة نفسها، لكن عندما تبلغه معلومة عن أن يد الملك السابق مات قتلًا لا مرضًا يحزم أمره ويصمم على أن يتوصل إلى هوية قاتله، وهكذا يجد إدارد نفسه في العاصمة وسط شبكة من المتآمرين والمخادعين والجواسيس، ويبدأ رحلة البحث عن القاتل، وهو ما يجعله يتوصل إلى سر رهيب خاص بعائلة لانستر من شأنه أن يقلب موازين الحكم كلها. بالتوازي مع هذه الأحداث يمضي خط آخر يتمثل في الأميرة دنيرس شقيقة ريجار، التي هُرِّبت مع أخيها الآخر إلى قارة إسوس وهي رضيعة فرارًا من انتقام روبرت من عائلتها، وتبدأ قصة دنيرس بأن يزوجها أخوها رغمًا عنها من الكال دروجو، أحد قادة الدوثراكي المحاربين سادة الخيول، مقابل أن يمنحه الكال جيشًا يعبر به البحر الضيِّق ويغزو به الممالك السبع لاستعادة عرش أبيه، وبعد مقتل أخيها تصبح دنيرس آخر من تبقى من عائلة تارجاريَن في العالم، ويقع على عاتقها الآن أن تسترد مملكة أبيها من روبرت الذي تطلق عليه لقب «الغاصب»، لكن كيف تستطيع فتاة في الخامسة عشر من عمرها أن تفعل هذا؟ خط الأحداث الثالث، والأهم ربما، يدور في شمال البلاد، حيث الجدار العملاق الذي شُيد منذ آلاف السنين ليحمي الممالك السبع من الخطر الشديد المتمثل في من يُعرفون باسم «الآخرين»، وهم كائنات تصفهم الرواية بأنهم «أشياء باردة، أشياء ميتة تمقت الحديد والنَّار ولمسة الشَّمس وكلِّ مخلوقٍ تجري الدِّماء الحارَّة في عروقه. اكتسَحوا المعاقل والمُدن والمَمالك، وأسقَطوا الأبطال والجيوش بالآلاف وهُم يمتطون خيولهم الميتة الشَّاحبة ويقودون حشودًا من الموتى الذين أسقطوهم. لم تستطِع كلُّ سيوف البَشر إيقاف تقدُّمهم، ولم تُثِر العذارى والرُّضَّع ذرَّة شفقةٍ فيهم. طارَدوا الفتيات في الغابات المتجمِّدة، وأطعَموا لحم أطفال البَشر لخدمهم الأموات». لا يخلو هذا العالم من المخلوقات السحرية، فهناك التنانين نافثة اللهب التي غزت بها عائلة تارجاريَن البلاد قديمًا، ومات آخرها قبل نحو مئة وخمسين عام، وهناك مخلوقات أخرى مثل أطفال الغابة والتنانين البحرية ووحوش الكراكن، بالإضافة إلى الذئاب الرهيبة التي تعد أضخم وأضرى بكثير من الذئاب العادية (وكان لها وجود في عالم الواقع قبل عشرة آلاف سنة)، كما أن هناك عددًا كبيرًا من المخلوقات التي ابتكرها مارتن وأطلق عليها أسماء مثل «جرامكن» و«سنارك»، وفي مدينة آشاي التي تقع في أقصى العالم المعروف تُمارَس أعمال السحر والشعوذة بحرية تامة، أما ما يقع وراء آشاي فيعرف باسم «بلاد الظل»، وهي مكان لا أحد يعرف ما أو من يسكنه، وتدور حوله الكثير من الأساطير. يلعب الدين دورًا مهمًّا في عالم مارتن كذلك، فهناك الكثير من الديانات التي يعتنقها بشر هذا العالم، ومنها ديانة الآلهة القديمة وديانة الإله ذي الوجوه السبعة في قارة وستروس، بينما في إسوس تتعدد الديانات الأخرى وتتنوع بين ديانة إله الضياء وديانة الإله عديد الوجوه وغيرهما، لكن هؤلاء الآلهة أنفسهم لا يظهرون في الأحداث ولا يبدو أن لهم وجودًا حقيقيًّا حتى. في هذا العالم يدوم الصيف سنينًا والشتاء عمرًا بأكمله في بعض الأحيان، وهو شتاء أقسى بكثير مما نعرفه في عالم الواقع، ففي إحدى فقرات الرواية الأولى تقول إحدى الشخصيات: «رأيتُ رجالًا يتجمَّدون حتىى الموت الشِّتاء الماضي، والشِّتاء الذي قبله، عندما كنتُ نصِف غلام. الجميع يتكلَّمون عن ثُلوجٍ عُمقها أربعون قدمًا، وكيف تأتي الرِّيح الجَليديَّة تعوي من الشَّمال»، وطوال أحداث الرواية تردد الشخصيات العبارة الشهيرة «الشتاء قادم»، فالصيف على وشك أن ينتهي بالفعل، ومع مجيء الشتاء سيأتي «الآخرون» ليكتسحوا الأخضر واليابس، ولا أحد يقف بينهم وبين بقية العالم غير حرس الليل الذين يحرسون القلاع المشيدة على الجدار وقد بدأت قوتهم تتهاوى بالفعل، في حين ينشغل بقية حكام الممالك السبع بصراعاتهم ورغبة كل منهم في الجلوس على العرش الحديدي. فصول كل رواية معروضة من وجهة نظر عدة شخصيات مختلفة، تبدأ في الكتاب الأول بتسع شخصيات، ست منها تنتمي إلى عائلة ستارك -إدارد ستارك وزوجته كاتلين تَلي وأولادهما بران وآريا وسانزا، وابنه غير الشرعي جون سنو الذي يعتبره كثيرون أهم شخصيات الروايات والمسلسل- والشخصيتان الأخريان هما الأميرة دنيرس تارجاريَن والقزم تيريون لانستر الذي يعد أيضًا من أكثر الشخصيات المحبوبة لدى قراء الروايات ومشاهدي المسلسل على الإطلاق، إن لم يكن أكثرها؛ وفي الروايات التالية تُحذف شخصيات وتضاف شخصيات أخرى نرى الأحداث من وجهة نظرها، حتى بلغ عددها مع الرواية الخامسة 31 شخصية. اكتسب چورچ مارتن سمعة مستحقة بصفته من أكثر المؤلفين الذين يقتلون شخصياتهم على الإطلاق، وبينما لن نذكر اسم أي شخصية معينة هنا منعًا لحرق الأحداث على من لم يقرأوا الروايات أو يشاهدوا المسلسل، وبعيدًا عن أن هناك شخصيات لا تزال حية في الكتب وماتت في المسلسل والعكس، فسنكتفي بأن نقول إن مارتن قتل حتى الآن 293 شخصية، منها ما لا يقل عن 20 شخصية رئيسية. يقول مارتن عن هذا: "طوال عملي ككاتب وأنا أقتل الشخصيات، وربما أكون سفاحًا دمويًّا، لكن عندما تكون شخصياتي في خطر ما، فإنني أريدك كقارئ أن تشعر بالخوف من أن تقلب الصفحة، وكي تفعل هذا عليك أن تُظهر من البداية أنك مهتم حقًّا بمصير تلك الشخصيات"      

الترجمة العربية

    ربما تكون الترجمة العربية لملحمة «أغنية الجليد والنار» -التي صدرت منها حتى الآن أربعة أجزاء عن دار التنوير- قد تأخرت نوعًا، لكن أوانها لم يفت بعد بالتأكيد، فمع أن معرفتنا كعرب بها جاءت عن طريق المسلسل التليفزيوني «Game of Thrones» المأخوذ عنها، فإن سلسلة كهذه ستظل في ذاكرة القراء طويلًا جدًّا، مثلها مثل ثلاثية «سيد الخواتم» ورواية «الهوبيت» التي سبقتها، خصوصًا أن هناك شخصيات رئيسية وحوادث وخطوط درامية كاملة محذوفة من أحداث المسلسل، والكتب أثرى بكثير جدًّا في التفاصيل والدراما، كما أن الشخصيات في الروايات بارزة أكثر ودوافعها لارتكاب الخير أو الشر موضحة أكثر، وهناك أحداث كثيرة تغيرت في المسلسل لحساب السياق الدرامي، فهو في النهاية مجرد عمل مأخوذ عن الكتب ولا يقدمها بالتفصيل. عندما بدأ عرض المسلسل في عام 2011 أبدى عدد من دور النشر العربية اهتمامه بترجمة الروايات، إلا أن أحدًا منها لم يقدم على هذه الخطوة، أو أن بعضها راسل وكيل أعمال المؤلف للحصول على حقوق ورُفض عرضه. ثم ظلت الأمور على ما هي عليه حتى عام 2014 عندما بدأت دار التنوير أخيرًا عملية الحصول على حقوق الترجمة إلى العربية، وفي هذه الفترة اشتعلت منافسة طويلة دامت عدة شهور بين دار التنوير وعدد من الدور الأخرى التي ربما استفزها إقدام التنوير على هذه الخطوة، ورُفع المبلغ المقترح لشراء الحقوق عدة مرات. لكن في النهاية لم يكن الشق المالي هو ما حسم المنافسة لصالح التنوير، لأن المسألة ليست مجرد من يدفع مبلغًا أكبر فحسب، بل أن يكون الناشر العربي صاحب الحقوق بمثابة «شريك» للمؤلف في الشرق الأوسط -كما قالت وكيلة أعمال مارتن بالنص- وفي النهاية عندما اطلع المؤلف على العروض المختلفة، ورأى تاريخ دار التنوير وإمكانيات الطباعة والتوزيع لديها، بالإضافة إلى قائمة الأعمال المترجمة الطويلة التي قدمتها من قبل، والجوائز المهمة المختلفة التي فازت بها، وقَّع على عرضها، وأكدت وكيلة أعماله أنها سعيدة للغاية لحصول التنوير على الحقوق أخيرًا. الجميل في الأمر بالنسبة إلى القارئ العربي أنه لا يعاني طويلًا كالقارئ الأجنبي في انتظار صدور أجزاء السلسلة، إذ تصدر بالعربية بمعدل كتاب في العام، في حين ينتظر القارئ الأجنبي أربعة أو خمسة أعوام بين الكتاب والكتاب التالي.