نشرت صحيفة "ذا نيو يوركر" في أول السنة مقالاً بعنوان "كناوسجارد أو فيرانتي"، خيارٌ عشوائي يظهر كيف سيطر هذان الكاتبان الأوروبيان على نقاشات الأدب الإبداعي المعاصر في أميركا، ومن المغري أن نضيف إلى هذه التوليفة - بين قوسين- اسمٌ يخطرعلى البال فوراً لدى سماع هذين الاسمين وهو "كراسناهوركاي". فقد حصل الروائي الهنغاري في السنوات الأخيرة على مديحٍ مشابه ٍ من النقاد الناطقين باللغة الإنجليزية، ولكنه ما يزال بحاجة لتحقيق حضورٍ أكبر لدى جمهور القرّاء التقليديين. حيث أن "فيرانتي" تعتبر "امرأة الغموض العالمي" و يكاد "كناوسجارد" أن يكون نجم روك، بينما لا يزال "لاسلو كراسناهوركاي" سراً محفوظا بعناية عن عامة القرّاء، كما كتب  "جيمس وود" ذات مرة عن أعماله : "يميل الناس إلى تداولها سراً كعملةٍ نادرة". لكن هذا قد يتغير في الأسبوع القادم، بعد أن مُنح " كراسناهوركاي" جائزة البوكر العالمية، التي تُمنح كل عامين لعملٍ مكتوبٍ أو مترجمٍ إلى اللغة الإنجليزية. يسعى مانحو هذه الجائزة أن تصبح بديلا لجائزة نوبل للآداب، فالكتّاب الحاصلين على هذه الجائزة هم من مرشحي جائزة نوبل السابقين من أمثال "فيليب روث"، "تشينوا أتشيبي"، "اسماعيل قدري" بل و بعضهم من الحاصلين على جائزة نوبل  مثل "أليس مونرو"، إذن وبكلمات أخرى فإن ""كراسناهوركاي"  عند فوزه بهذه الجائزة فكأنما انضم إلى نادٍ حصريٍ للكتاب، نادٍ يشع بالكثير من الهيبة والنفوذ ما يجعل كتبه أكثر جذباً للقرّاء والناشرين وبائعي الكتب على حدِّ سواء. وفي الوقت ذاته من السهل تخيّل بقاء " كراسناهوركاي" عملةً نادرة ، فعلى عكس "كناوسجارد أو فيرانتي" اللذان تمتاز كتابتيهما بالسهولة والفهم الفوري، تبقى أعمال "كراسناهوركاي" صعبة، وهي صفةٌ ملعونةٌ في زمن الإشباع الفوري. فجمله طويلةٌ قد تمتد على صفحات وصفحات، تميل للكثافة واللزوجة كالطين، عصيّة على الفهم المباشر، تتلوى وتلتف حول نفسها، و تتدفق كالنهر العكر المليء بحطام سفينةٍ بشرية لم تفلح في مغادرة البحر. إنه كاتب صاحب رؤيةٍ متكاملة، إذ يبدو كلٌّ كتابٍ من كتبه قطعةً غير مستقلة، تتكامل مع باقي القطع فتكوّن عالماً خيالياً يبدو كنسخةٍ محرَّفةٍ من عالمنا . كتبه مستقاةٌ من الواقع.. الواقع الذي وصفه بنفسه كـ "واقعٍ مجَّربٍ إلى حدِّ الجنون". ولكنها تحتوي على عناصر خيالية أيضا، كأمطار الكتاب المقدس، والفتاة التي عادت من الموت وتطفو في الهواء كبساطٍ سحري. "أوتيلي مولزيت" إحدى مترجمي كتب " كراسناهوركاي"  قال في مقابلة مع "كوارترلي كونفرزيشن" أن " كراسناهوركاي"  في كتبه يخلق عالماً بمنطقٍ غريب خاصٍّ به ، يكاد يكون مفعما باللاهوتية و بشخوص توراتية تتكرر في كل كتاب: كالنبي و الباحث و المؤرشف، وعند دخول هذا العالم للمرة الأولى يشعر المرء بشيء من الضياع والحيرة، وكأنه بحاجةٍ إلى دليلٍ سياحي أو خبير علوم إنسانية ليفسِّر له تاريخ وشخصيات هذا العالم. مع هذا، فإن جمل  "كراسناهوركاي" الطويلة ليست عصيةً على  الفهم بل هي بمثابة رحلةٍ تمنح القارئ العادي الكثير من المتع،  فهذه الجملة القصيرة نسبياً بالمقارنة مع جمل "كراسناهوركاي" الأخرى،  مأخوذة من روايته الأولى " تانغو الخراب" التي نشرت أول مرةٍ في عام 1985 ولم تصدر في الولايات المتحدة حتى عام 2012، "تانغو الخراب" التي تتحدث باختصارٍعن تحلل مزرعةٍ جماعيةٍ فقيرة في هنغاريا، الأمر الذي كان مألوفاً زمنَ القائد الشيوعي "يانوس كادار" . هذا النص يعطينا فكرةً عن هوس "كراسناهوركاي" بالانهيار والاضمحلال الحضاري وولعه بربط دمار الكائنات الحية بالكون. (يكشط "إرمياس" الوحل عن حذاءه الثقيل، و يتنحنح منظفاً حنجرته، ثم يفتح الباب حذراً، ويبدأ المطر من جديد بينما تضيء السماء في جهة الشرق، سريعاً مثل ذكرى، قرمزية زرقاء شاحبة متكئة على أفقٍ متموج ، منتظرةً أن تأتي الشمس في أعقابها، تنتظر مثل متسولٍ يشق طريقه لاهثاً كل يومٍ إلى مكانه على درجات المعبد، مفعماً بالبؤس وبانكسار القلب... مستعدةً لجلاء عالم الظلال، ولتفريق الأشجار إحداها عن الأخرى، وللنهوض متعاليةً على تلك الوحدة اللامتمايزة المشوَّشة المتجمدة... وحدة الليل الباردة التي كانوا عالقين فيها مثلما تعلق ذبابات في شبكة عنكبوت... أرضٌ وسماءٌ بمعالم واضحة، بحيوانات وبشر واضحين.. ولا تزال الظلمة هاربةً عند نهايات الأشياء في مكان ما عند ذلك الأفق، حيث تختفي أهوال لا حصر لها، واحداً بعد الآخر، مثل جيشٍ مشتت مرتبك مهزوم). (ترجمة: الحارث النبهان، دار التنوير )٢٠١٦ في قراءةٍ نقديةٍ ممتازة لأعمال "كراسناهوركاي" نُشِرت في صحيفة "ميوزيك أند ليتريتشر" وصف "بول كيرتشين" رواية "تانغو الخراب" بأنها جزء من روايات الكاتب الهنغارية ، هذه الروايات التي صوّرت الحياة تحت حكم الشيوعية الأوروبية في مرحلة ما بعد الحرب، كانت أول كتب تُرجمت إلى الإنجليزية وأثارت اهتمام النقاد الأميركيين - من أمثال "سوزان سونتاج"- بكتابات "كراسناهوركاي" التي أعلنته على غلاف نسخةٍ مطبوعة "سيد نهاية العالم الهنغاري"  (فإن كان كافكا قد تنبأ بالعيش في ظل حكم الأنظمة الشمولية ، فإن كتاباً أمثال  "كراسناهوركاي" و"اسماعيل قادر" من ألبانيا يمكن أن يشهدا بأن الأهوال العبثية لنهاية العالم قد حدثت بالفعل)...  يقدم "كراسناهوركاي" وأمثاله، من هذا المنطلق، غايةً أدبيةً وتاريخية في الوقت ذاته. وكما كتب "جوش كوهين" مرة عن  مديح "سونتاج" المتحمس لكاتب هنغاري آخر  وهو "بيتر ناداس" (يعود هذا التعاطف جزئيا مع كتّاب أوروبا الشرقيين من رغبةٍ لا إرادية في العثور على جمرٍ مشتعل للحداثة خلف الستار الحديدي) ولكن من الخطأ اختزال "كراسناهوركاي" لمجرد كونه ثمرةٍ في شجرة عائلة "كافكا"، إذ أن رواياته الهنغارية لا تعدو كونها نصف الحكاية فقط. فقد كتب "كراسناهوركاي" سلسلةً أخرى من الروايات الآسيوية تدور أحداثها في الصين واليابان، إحداها فقط وهي "سييبو هناك تحت" تُرجِمت إلى اللغة الإنجليزية، ولا تزال رواياتٌ أخرى له قيد الترجمة، وهنا نرى أن قلقه من انهيار الحضارة يتعدى مأساة القرن العشرين المتمثلة بالشيوعية، ليشمل العالم الذي ضحّى بعلاقته مع مقدساته في سبيل الرفاهية والراحة اللتان توفرهما البرجوازية العالمية الجديدة. رواية "سييبو هناك تحت" هي مجموعة من القصص المتصلة، تركز كل منها على واحدٍة من الكؤوس المقدسة، والتي يتخذ جميعها شكلاً من الفنون القديمة أو غير المرتبطة بزمان، أو كما يصفها "مولزيت" (سييبو هي عبارة عن صندوق عجائب يعرض كنوز حضارتنا البشرية بشكل رائع)يحركها (سؤالٌ ملحٌ: كيف يمكننا استيعاب هذه المقدسات في وعينا؟ هذه الآثار البشرية ذات العبء الغامر المعقد، كيف يمكننا تحويل مقدساتنا لتصبح جزءاً من  حياتنا اليومية"؟ إذاً ف "سييبو" تتجاوز الزمان والمكان إلى  قصر الحمراء والبارثينون وعصر النهضة،  حيث تختطف الشخصيات لمحاتٍ هائمة من المقدس. لا تنبع من التجارب المغتسلة في الضوء الخافت القادم من الجنة، إن شخصياته مشوشة، معمية البصر وخائفة. ولا زلنا لا نعلم إن كان الغربيون قادرين على استيعاب هذه المقدرة  أم لا،  وجهة نظر "كراسناهوركاي" في الموضوع تتشابه بعض الشيء مع جملةٍ مشهورةٍ لـ"ريلكه" حول سبب عبادتنا لجمال الملائكة  (لأنه يترفع بهدوءٍ عن تدميرنا) فالملائكة، والجنة، والمقدسات، جميعها غريبة وبعيدة ٌ تمام البعد عن حياتنا، مثالية بينما نحن مليئون بالعيوب، بحيث لا نملك رداً لوجودها سوى الاستغراق بكآبةٍ حائرة. هناك ديناميكية أخرى مستخدمة في القصص التي تدور أحداثها في اليابان، حيث يتم الكشف عن المقدس وتشكيله من خلال الحِرَف اليدوية المضنية . تمتاز كتابات "كراسناهوركاي" بتقارب طبيعي مع الهوس الياباني بالتفاصيل، الذي يتجلى بنصوص خلابة مليئة بالتفاصيل الدقيقة لعملية ترميم تمثال لبوذا، ونحت قناع بوذا، وطقوس إعادة بناء "ضريح آيس"حيث تتم إعادة بناء أجزاءٍ من الضريح بتطابقٍ من الصفراعتماداً على الذاكرة ... كل عشرين عاماً. بالمحافظة على هذه التقاليد وبالالتزام بمجموعةٍ من القواعد والتقاليد الصارمة ، ينبثق المقدس من مواد عادية بشكلٍ سحري،  ليسكنَ التمثالَ و القناع و الضريح، فيبقى الشيء –في الواقع– على حاله. (التمثال يعود إلى بداية فترة الـ "كاماكورا"، ويمكن للمرء أن يعُدَّ أماكن وضع وإزالة كل إكليلٍ من على رأس التمثال، وكذلك الأذنين والصدر، كل هذا والجسد المتناسق جالسٌ في وضعية زهرة اللوتس مغطىً بطبقاتٍ من قماشٍ منحوتٍ بحساسية فائقة، ولكن العينان هما أهم ما في التمثال، وهما – بحسب الخبراء- سبب الاحتفاء الكبير به، الجفون نصف المغلقة أو بالأحرى العيون نصف المفتوحة الوحيدة، المذهلة والخارقة والتي تمنح التمثال كما كل تماثيل "آميدا"، جوهرها وايحاءها، بنظرةٍ واحدة خالدة وأبدية ... تأثير لا يمكن للمرء أن يتجنبه، سؤال شامل، نظرةٌ وحيدةٌ أراد نحاتٌ في حوالي العام 1367 أن يصورها ويلتقطها بتقنياته الفنية العبقرية المبهمة، وكان تصويره وإيحاؤه ناجحاً بكل ما في الكلمة من معنى).  (من رواية "سييبو هناك تحت") يوضّح "مولزيت" وعلى عكس "تانغو الشيطان" حيث تبدو الجمل نفسها غائصةً في الوحل، كآبات "كراسناهوركاي" في الروايات الآسيوية حادة ونظيفة وكأنها محاطة بمساحة بيضاء لمخطوطة من المخطوطات اليدوية الأنيقة . لكن هذا لا يعني أن "كراسناهوركاي" يجد نوعاً من الخلاص الساذج في الروحانية الآسيوية، فرواياته الآسيوية - كما كتب "كريشن"- تحتوي على رسالةً غامضة، "الفن هو الملاذ الذي نلجأ إليه في حياتنا، هذا كل ما في الامر،  أو هو الستار الذي تتحرك الآلهة من خلفه". في هذا البحث عن الملاذ  فإن "كراسناهوركاي" أشبه بحاجٍ أو باستخدام وصفٍ له ذكره في مخطوطته المفصّلة فهو "باحثٌ" ومؤرشف ونبيٌ ربما، نبي سيجد بالتأكيد جمهوراً معيناً من الأتباع المخلصين. هل سيزيد عدد هؤلاء الأتباع؟ أمرٌ سنعرفه لاحقاً. لكن مع ظهور المزيد من رواياته الآسيوية قيد الترجمة وحصوله على المزيد من الجوائز المستقبلية، نستطيع أن نؤكد أن رحلته قد بدأت للتو.   المصدر https://theweek.com/articles/556302/laszlo-krasznahorkai-about-huge