من أين تستمد أفكارك؟

 

الأفكار رخيصة، وأنا أملك أفكارًا لا أستطيع الملاحقة على كتابتها لغزارتها، لكن رأيي أن التنفيذ هو الأهم. إننى فخور بعملي، لكني لا أدري إن كان لي أن أصفه بالأصالة. انظر الى شيكسپير الذى استعار كل حبكات مسرحياته من وقائع تاريخية. في «أغنية الجليد والنار» استعرت أفكارًا من حرب الوردتين وأفكارًا أخرى من الفانتازيا، ودارت كل تلك الأفكار في ذهني، وبشكلٍ ما امتزجت معًا في كتاباتي التي أتمنى أن تكون فريدة من نوعها. لا أدري من أين تأتي الأفكار، لكنها تأتي دومًا.

 تكلمت من قبل عن البذرة الأولى للقصة التي أصبحت «أغنية الجليد والنار»، الفكرة التي تراءت لك عن ولد صغير يشاهد عملية إعدام بضرب العنق، ثم يعثر على الذئاب الرهيبة فى الجليد. إنها فكرة مثيرة.

 

كان هذا فى صيف عام 1991. كنت أعمل في هوليوود وقتها، ووكيل أعمالي يحاول ترتيب مقابلات لي لتقديم أفكاري، لكن لم يكن هناك ما أفعله خلال شهري مايو ويونيو، وكانت سنوات قد مرت منذ كتب رواية جديدة. كانت تدور في عقلي فكرة عن رواية خيال علمي اسمها «Avalon»، وشرعت فى كتابتها بالفعل ومضى كل شيء على ما يرام، عندما تراءى لي هذا المشهد الذى سيغدو في النهاية الفصل الأول من «لعبة العروش». كان هذا من وجهة نظر صبي أطلقت عليه اسم بران، يرى رجلًا تُقطع رأسه، ثم يعثرون على جراء الذئاب الرهيبة وسط الثلوج.

ظهر المشهد في مخيلتي بقوة وبوضوح حتى إننى جلست أكتبه في الحال، وفى غضون ثلاثة أيام كنت قد بدأت كتابة ما تقرأه الآن.

 عندما قررت كتابة الثلاثية -التي أصبحت سباعية الآن- هل انتابك القلق من أنها يجب أن تكون على مستوى ثلاثية تولكين «سيد الخواتم»؟

ليس بشكل خاص. منذ سبعينات القرن الماضي ومقلدو تولكين يقدمون المزيد من الشيء نفسه، وإن افتقروا للأصالة والحب العميق الذي كان تولكين يكنُّه للأسطورة والتاريخ، في حين اُعتبرت أنا دائمًا -على الأقل فى الجنس الأدبي الذي أمارسه- كاتبًا جادًّا. ثم إن تلك القصة كانت تسيطر عليَّ تمامًا، وخطر لي أن هذه الكتب التي أكتبها فيها حس الشجاعة الذي تحمله الروايات التاريخية، بالإضافة إلى سحر ورهبة الفانتازيا الملحمية.

إذا استثنينا عنصر الفانتازيا، فربما يمكننا اعتبار «لعبة العروش» إعادة تخيل لحرب الوردتين.

كنت أفكر منذ مرحلة مبكرة جدًّا تعود إلى عام 1991 إن كنت سأضيف الكثير من العناصر الفانتازية إلى الأحداث، وفي مرحلةٍ ما فكرت في كتابة رواية عن حرب الوردتين، لكن المشكلة مع الأدب التاريخي المباشر أنك تعرف ما سيحدث. إذا كنت تعرف أي شيء عن حرب الوردتين، فأنت تعرف أن الأميريْن الحبيسيْن في البرج لن يهربا. أردت أن أكتب شيئًا غير متوقع، أن أُدخل المزيد من الحبكات والتحولات. السؤال الرئيسي كان التنانين: هل أضيف التنانين إلى القصة؟ أعرف أن رمز عائلة تارجاريَن هو التنانين، ورمز عائلة لانستر الأُسود، ورمز عائلة ستارك الذئاب، فهل ستكون تلك الأشياء حرفية؟ هل من الضروري أن تكون لدى عائلة تارجاريَن تنانين حقيقية؟ كنت أتناقش في تلك النقطة مع صديقة هي الكاتبة فيليس آيزنشتاين -التي أهديت إليها الكتاب الثالث- فقالت: «چورچ، إنها قصة فانتازية. يجب أن تضع التنانين في القصة طبعًا». هكذا أقنعتني، وكان رأيها صائبًا، والآن وقد تعمقت فى الموضوع لا أستطيع أن أتخيل هذه الكتب من دون التنانين.

 كيف خطرت لك فكرة الجدار؟

الجدار سبق كل شيء آخر، ويعود تصوري له إلى عام 1981. كنت وقتها أزور صديقًا لي في إنجلترا، وحين اقتربنا من الحدود بين إنجلترا وسكوتلندا توقفنا لنشاهد جدار هادريان، ووقفت هناك محاولًا أن أتخيل كيف كان شعور الجندي الروماني الواقف على هذا الجدار محدقًا إلى التلال البعيدة، وكان شعورًا عميقًا للغاية، لأن بالنسبة إلى الرومان في تلك الحقبة كان هذا الجدار بمثابة نهاية الحضارة، نهاية العالم. نعرف الآن أن السكوتلنديين كانوا وراء تلك التلال، لكن الرومان لم يعرفوا ذلك في حينها، وربما كانوا يتصورون أن القابع وراء التلال وحوش ما.

كان الإحساس بوجود ذلك الحاجز ضد قوى الظلام هو ما زرع شيئًا ما في داخلي. لكن عندما تكتب رواية فانتازية يصير كل شيء أضخم وأكثر ازدحامًا بالتفاصيل، لذا جعلت جداري أكبر ثلاث مرات طولًا و700 قدم ارتفاعًا، وجعلته من الجليد.

أكسبك المسلسل التليفزيوني ملايين من المعجبين الجدد، وطبقًا للمناقشات الدائرة على الإنترنت فهم عاشقون لعملك لأقصى حد.

إنه شعور رائع أن تعلم أن ما لديك ليس عددًا كبيرًا من القراء أو المشاهدين فحسب، بل أفكارهم واهتمامهم العميق الأكبر من قدرتي على الاحتمال، لكن ربما كان هذا أحد الأسباب التي جعلتني أبطأ في الكتابة، معرفة أن كل هؤلاء يدرسون كل سطر وينتظرون كل مشهد. الكتاب الذي يحكي الأجزاء المجهولة من تاريخ عالمي يجعل من الممتع، والسار على نحو خفي، أن كثيرًا من المعجبين مهتمون بهذا التاريخ المصطنع، وأنا لا أدري حتى إن كانوا يهتمون بدراسة التاريخ الحقيقي. ربما أصابهم الملل في المدرسة من كل هؤلاء الملوك الذين يحملون اسم هنري في التاريخ الإنجليزي، في حين يبحثون بكل سرور عن تاريخ سلالة تارجاريَن . لقد درست التاريخ في الجامعة، وإن كنت لا أدَّعي أنني مؤرخ. يهتم المؤرخون المعاصرون بدراسة التاريخ من الناحية الاجتماعية والسياسية، ولا أهتم أنا بهذا، وما يجذبني حقًّا هو القصص. التاريخ منجم ذهب يكتب بالدماء، بكل ما فيه من الملوك والأمراء والقادة والعاهرات والخيانة والحروب والأسرار، وهو أفضل بنسبة 90% من  جميع ما تختلقه حكايات الفانتازيا.

 السلطة من الموضوعات الأساسية في الروايات والمسلسل، فالجميع تقريبًا يسيئون استغلالها، ربما باستثناء دنيرس.

الحكم شيء صعب، ولربما كان ذلك ردي على تولكين، الذي بقدر إعجابي به فإن لديَّ اعتراضًا على فلسفة القرون الوسطى التي استخدمها في «سيد الخواتم»، وهي «إذا كان الملك صالحًا سينصلح حال البلاد»، لكن حين نلقي نظرة على التاريخ الحقيقي سنجد أن الأمر ليس بتلك البساطة. يستطيع تولكين أن يقول إن أراجورن صار ملكًا وحكم لمئات السنين، وإنه كان رجلًا حكيمًا وصالحًا، لكنه لا يطرح أسئلة على غرار: ماذا كانت سياسة أراجورن الضريبية؟ هل حافظ على جيش قوي؟ ماذا فعل في أوقات الفيضان والمجاعات؟ وماذا عن كل الأورك الذين بقوا في الأرض الوسطى؟ في نهاية الحرب يسقط ساورون سيد الخواتم ويبقى عدد كبير من جنوده الأورك مختبئين في الجبال، فهل اتبع أراجورن سياسة إبادة جماعية ممنهجة وقتلهم؟ حتى الأورك الصغار؟ الملوك فى عالم الواقع كانت لديهم مشكلات واقعية، ومجرد كون أحدهم رجلًا صالحًا لم يكن الحل. يجب عليك اتخاذ قرارات صعبة جدًّا، وأحيانا ما يبدو كقرار صائب يصير غير ذلك وينقلب السحر على الساحر. هذا هو قانون العواقب غير المقصودة، وقد حاولت أن أضع هذا في كتبي، فشخصياتي التي تحاول أن تحكم لا تجد الأمر بتلك البساطة، ومجرد حسن نيتك لا يجعلك ملكًا حكيمًا.

 أنت رجل مسالم، لكن العنف في هذه الكتب مكثف للغاية، فهل يبدو هذا متعارضًا مع آرائك عن السلطة والحرب؟

الحرب التى كتب عنها تولكين كانت من أجل مصير الحضارة ومستقبل الإنسانية، وهو ما أصبح النموذج السائد من بعده، على أنني لست متأكدًا إن كان هذا شيئًا جيدًا، فقد قاد نموذج تولكين أجيالًا من مؤلفي الفانتازيا إلى أن يكتبوا قصصًا بلا عدد عن سادة الظلام وأتباعهم الأشرار قبيحي المنظر المتشحين بالأسود كلهم، أما أكثر الحروب في التاريخ فلا تشبه هذا. الحرب العالمية الأولى مثلًا مشابهة للحروب التاريخية الأخرى أكثر من الحرب العالمية الثانية بكثير. إنها من هذا النوع من الحروب الذي تعود بذاكرتك بعده لتقول: «ما الذى كنا نحارب في سبيله؟ لماذا مات كل هؤلاء الملايين؟ هل كان الأمر يستحق أن نتخلص من إمبراطورية النمسا والمجر لدرجة أننا أبدنا جيلًا بأكمله ومزقنا نصف القارة؟ هل كانت الحرب الإسبانية الأمريكية عام 1812 تستحق؟ ما الذي كانوا يحاربون من أجله؟».

ثمة حروب قليلة تستحق حقًّا ما تكبده العالم من خسائر. لقد ولدت بعد ثلاث سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية. إنك ترغب في أن تكون البطل، ترغب في أن تكون مميزًا، سواء أكنت الرجل العنكبوت تقاتل الجوبلين الأخضر، أم الجندي الأمريكى الذى ينقذ العالم من النازيين. من المحزن أن أقول هذا، لكني أعتقد أن هناك أشياء تستحق القتال من أجلها، والناس لا يزالون قادرين على أفعال البطولة العظيمة. لكني لا أعتقد بالضرورة في وجود الأبطال. هذا شيء واضح ومتكرر كثيرًا في كتبي، أنني أومن بالشخصيات العظيمة، وكلنا قادرون على القيام بأشياء عظيمة وأشياء شنيعة، ففي داخلنا الشياطين والملائكة، وحياتنا سلسلة من الخيارات.

ترجمة: هشام فهمي 

المصدر:

https://www.rollingstone.com/culture/culture-news/george-r-r-martin- the-rolling-stone-interview-242487/